((مقدمة كتاب السيرة))
 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين يسبح له من في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم أرسل رسله منذرين ومبشرين وأنزل كتبه موعظة للمتقين ورحمة للعالمين وهدًى للسالكين وشفاءً للمؤمنين أحمده حمدًا يليق بجلال وجهه الكريم وسلطانه القديم وأشكره جل وعزّ على نعمه الكثيرة وآلائه الجليلة أطعم من الطعام وسقى من الشراب وبصّر من العمى وهدى من الضلالة وفضل على كثير من خلقه فله الحمد على كل حال.
وأشهد أنّه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير ولا معين شهادة المقر له بالوحدانية والمفرد له بالعبادة لا إله إلا هو الرحمن الرحيم﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ له الأسماء الحسنى والصفات العلى لا إله إلا هو الملك الحق المبين سبحانه وبحمده لا إله إلا هو رب العرش الكريم.

وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين شرح الله له صدره ورفع له ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره, صاحب المقام المحمود, والحوض المورود, أحيى الله به قلوبًا غلفًا وأسمع به آذاناً صمًا وبصّر به أعينًا عميا لم يقبضه حتى أقام به الملة المتعوّجة تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وجاهد في الله حقّ جهاده حتى أتاه اليقين.
أمّا بعد:ـ
فإنّ الله عزّ وجل خلق الخلق لطاعته وعبادته فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وأرسل رسله مبشرين لمن وحّده وأطاعه ومنذرين لمن عصاه قال الله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ فبلغوا البلاغ المبين ووضحوا الطريق للمستبصرين قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ فكان في دعوتهم نصح لأممهم قال تعالى مخبرًا عن نوح: ﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وقال تعالى مخبرًا عن هود: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾وقال جل في علاه مخبرا عن صالح: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ وقال تعالى مخبرًا عن شعيب: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ وأرسل الله عز وجل رسله تترا وكان أوّلهم نوح عليه السلام فهو أوّل رسول إلى أهل الأرض قال الله عز وجل: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ وكان بين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة قرون على ما صح به الخبر عن النبيّ المعصوم صلى الله عليه وسلم, وأخذ الله ميثاقهم على نصرة بعضهم قال تعالى:﴿وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ وكان آخرهم محمد عليه الصلاة والسلام فهو دعوة إبراهيم قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾, وبشارة عيسى عليه السلام قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ فختم الله عز وجل به الرسالة والنبوة ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ وفي الحديث: ((لا نبي بعدي)) أخرجه البخاري(4416) ومسلم(2404) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

فأوجب الله طاعته فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾وحذّر من مخالفته وسلب الإيمان ممّن لم يرض بحكمه فقال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وجعل التأسي به علامة إرادته: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ وقطع الخِيَّرة مع خِيَّرته فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ وقرن طاعته صلى الله عليه وسلم بطاعته فقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ ومن خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ادِّعائه لمحبّة الله كان كاذبًا في دعواه قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وجعل رحمته الواسعة لمتبّع ملّته فقال تعالى:﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ وأخبر أنّ الجنّة لأهل طاعته والنّار لأهل معصيته قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وكفى الله عزّ وجل رسوله ومن اتّبعه قال الله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأوجب الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وقرنه بالإيمان بنفسه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ ابتلى الله عزّ وجل المؤمنين بطاعته وفرّق بها بين أهل ولايته وأهل معصيته قال الله عزّ وجل: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ فلما كان هذا شأنه أحببت أن أكتب عن سيرته مبيِّناً لخصائصه وشمائله ومحاسنه ومكارمه مكتفيًا بالصحيح من أيّامه وشهوره وأعوامه فقدّر الله عزّ وجل أن تأخرت لتهيبي من الموضوع وخوفي من عدم إعطائه حقّه فيسر الله عزّ وجل أن اطلعت على منظومة بعنوان: “التحفة اللّطيفة في حادثات البعثة الشريفة” لعبد الرحمن بن علي الدبيع رحمه الله فوافقت ما في نفسي وشرح الله للكتابة في هذا الباب صدري راجيًا من الله أن يعينني على إعطاء الموضوع حقّه فأستفيد أوّلًا بمعرفة الحوادث التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لعلي أن أتأسى به صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ ثمّ لأفيد غيري من المسلمين ومع ذلك يكون هذا المؤلف متضمناً للدفاع عن النبيّ الكريم محمد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم في زمن تنمّر شانؤوه وظهر النفاق من مخالفيه فجعلوا يطعنون فيه بأبي هو وأمّي فكان من الواجبات الذّب عن عرض النبيّ الكريم العظيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن أحسن ما يُرد به على الكفرة والزنادقة في هذا الباب وغيره هو الإشهار لأيام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسنينه وشهوره وأعوامه وما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكارم الأخلاق حتى وصفه ربّه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} كيف لا وخلقه القرآن كما صح في مسلم (746) عن عائشة رضي الله عنها الكريمة بنت الكرام قال الله عزّ وجل: ﴿لَقَدْجَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾وأسميته: “الفوائد المنيفة من صحيح السيرة وبيان حادثات البعثة الشريفة”.
فالله أسأل أن يسدد القلم ويشرح الصدر لما أنا في صدده وأن يجعل كتاباتي خاصة لوجهه نافعة لعباده مبلغة إلى مرضاته والحمد لله ربّ العالمين.
غرة شهر صفر /1434 هـ
عبد الحميد بن يحی بن زيد الحجوری الزُّعكري