فوائد_رمضانية_لعام_1441_هـ
▪️للشيخ أبي محمد عبد الحميد الحجوري الزُّعكري حفظه الله.
فتح الخلاق ببيان جمل من محاسن ومساوئ الأخلاق.
♻️ الفائدة 6_ الكرم والبخل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فنحن في اليوم ٧ / من شهر رمضان / لعام ١٤٤١.
نتكلم عن خلقين متقابلين أحدهما ممدوح صاحبه،
والآخر مذموم صاحبه
ألا وهما: الكرم والبخل.
واعلم يا عبد الله أن الله عز وجل قد اتصف بصفة الكرم، كما سمى نفسه: الكريم. لأنها صفة مدح وكمال، وهو الأكرم سبحانه وتعالى.
فمن ذلك أنه ينفق على عباده ومخلوقاته، في “صحيح البخاري” عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: *«إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؟، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» *. وقد نزه الله عز وجل نفسه عما وصفه به اليهود من قولهم بأن يده مغلولة *﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ ﴾*.
فهو سبحانه الغني الكريم، في “صحيح مسلم” عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: *«لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» *.
وهكذا كان نبينا ﷺ، متحليا بهذا الخلق العظيم، وكيف لا وخلقه القرآن، وكيف لا وهو أحسن الناس أخلاقا، بل بلغ من شأنه ﷺ أنه ما سئل شيئا فقال: لا.
وفي غزوة حنين حين منَّ الله عليه بما منَّ من الغنائم ربما أعطى الغنم للرجل الواحد بين جبلين، وأعطى صفوان بن أمية ثلاثة مائة من الإبل، وأعطى الأقرع مائة من الإبل، وأعطى مرداس الأسلمي مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، فكان ﷺ كريما جوادا.
اجتمع عليه الناس يسألونه ويلحفون له، فقال: *ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم*.
وهكذا تخلق بهذا الخلق العظيم صفوة الناس بعد الأنبياء والمرسلين.
فها هو أبو بكر رضي الله عنه، ينفق ماله أجمع في سبيل الله، وعمر رضي الله عنه ينفق نصف ماله في سبيل الله، وعثمان بن عفان رضي الله عنه يجهز جيش العسرة وغير ذلك من الأمور، كل ذلك في سبيل الله، فكانوا رضوان الله عليهم كرماء يحبون البذل والعطاء، كما يحب أحدنا الجمع والنماء، فلا سواء بيننا وبينهم، إذ أن الله عز وجل أكرمهم لنصرة نبيه لعلمه بأحوالهم، وصفاء أقوالهم، وجميع حالاتهم.
نعم، فالكرم صفة ممدوحة عند جميع الناس، وقد امتدح الناس حاتم الطائي مع كفره، بسبب كرمه ومع ذلك تجد أن بعضهم يقول: أكرم العرب حاتم الطائي. ولقد كذب.
فإن أكرم العرب مطلقا، وأكرم الناس مطلقا هو رسول الله ﷺ، ثم من سار على سيره ممن بذل أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتأسيا برسول الله ﷺ.
عباد الله، إن الكرم قد يكون جبليا، بحيث أن الإنسان ينشأ عليه ويحب البذل والعطاء، وقد يكون مكتسبا، بحيث أنه ينظر إلى الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية في حثها على الإنفاق والبذل في أوجه الخير، فيسارع إلى ذلك، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: *«مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» *.
وفي “صحيح البخاري” عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: *«مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا» *. نعم يا عباد الله.
وأما الصفة الأخرى فهي: البخل.
هذه الصفة الذميمة التي قال عنها الإمام أحمد وغيره: لا يجتمع الصلاح والبخل أبدا.
لا يمكن أن يكون الرجل صالحا وفي نفس الوقت بخيلا. لأن البخل ينشأ عن سوء ظن بالله، وينشأ عن بعد عن امتثال سنة رسول الله ﷺ، عن جابرٍ: أَنَّ رَسُول الله ﷺ قالَ: *«..اتَّقُوا الشُّحَّ»*. وهو شدة البخل.
فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم، فما ترى مما وقع بالأمة من القتل والقتال، ومنع المواريث ومنع الحقوق سببه البخل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: *«شرُّ ما في الرجلِ شُحٌّ هالِعٌ وجُبنٌ خالِعٌ» *. نعم، وقد قال الله عز وجل: *﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) ﴾*. فكثير من الناس يمنعون ما أوجب الله عز وجل عليهم. وكان الواجب أن يتخلقوا بما تخلق به رسول الله ﷺ من البذل والعطاء، سواء على الأهل والأبناء، أو على غيرهم من المحتاجين والفقراء، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: هِنْد يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ؟ قَالَ: *«خُذِي بِالْمَعْرُوفِ» *. نعم، وقد كان من دعاء النبي ﷺ: *«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ» *. لأن البخل والجبن خلقان سيئان، ينتجان عن ضعف الإيمان بالقدر، وعن ضعف التوكل، وعن ضعف الشجاعة، وعن ضعف كثير من مكارم الأخلاق. فينبغي للمسلم أن يكون كريما في قوله فلا يتكلم إلا بالحق وأن يكون كريما في اعتقاداته فيتجنب الظنون السيئة واعتقادات الفاسدة. وأن يكون كريما في فعله فلا يتخلق إلا بالأخلاق الطيبة الكريمة المحبوبة إلى الله عز وجل وإلى رسوله ﷺ. وأن يكون كريما في نفقته ولا يتعارض الكرم مع عدم الإسراف، فإن الإسراف هو مجاوزة الحد، والله عز وجل يقول: *﴿ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) ﴾*. ولكن عليه أن ينفق ما أوجب الله عليه وما شرع الله عز وجل له، وعليه أن يكون بعيدا عن صفة البخل التي كفى بها مذمة أنها خلق المنافقين، وخلق الكافرين، وخلق دعاة الإيمان، وقد قال بعضهم:
*مهلاً نُوارًا قَلي اللُّوم والعَذلا*
*وَلا تَقولي لِشَيءٍ فاتَ ما فَعَلا*
*يَرى البَخيلُ سَبيلَ المالِ واحِدَةً*
*إِنَّ الجَوادَ يَرى في مالِهِ سُبُلا*
الكريم يرى أن المال ينبغي أن يبذل في طاعة الله عز وجل، فيصل به الرحم، ويطعم به الفقير، ويوسع به على الأبناء، ويأدي الزكاة المفروضة، ويبادر إلى الصدقات المندوبة، “أنت للمال إذا أمسكته وإذا أنفقته فالمال لك”. نعم عباد الله ونحن في شهر كريم كان ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة، فينبغي للإنسان إن كان لله عليه حق من زكاة ونحوها أن يبادر إلى إصالها إلى مستحقيها، فإن ذلك من الواجبات عليه، وليست من المكرومات ولا من المستحبات أقصد من المتفضلات، وإن كانت مكرمة من حيث العمل بأمر الله وأمر رسوله ﷺ لكن ليست هيبة منه، ولا مِنَّ منه، بل يجب عليه أن يأديها إلى مستحقيها فهذا هو أعظم كرم بالمال أن تأدي الواجب عليك، ثم تنتقل إلى المستحب وهكذا. وقد سئل النبي ﷺ: أَيّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: *«ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ فَعَلَى أَهْل بَيْتِك فَإِنْ فَضَلَ شَيْء فَلِذِي قَرَابَتِكَ» *.
إن ما ترون مما حل بالأمة من الدمار والبلاء بسبب فشو الربا وسببه العظيم البخل الذي اتصف به أهل النفاق، حتى أنه وصفوا الله بالبخل فغل الله أيديهم وسلط عليهم البخل، وكثير من الناس دخلوا في باب الربا وباب الميسر وباب القمار وباب الشر العظيم في الأموال بسبب البخل والشح عليها. فعاقبهم الله عز وجل بأن سلبها منهم وقلت بركاتها، وذهب خيرها.
فعلى المرئ أن يكون متحليا بالكرم لما فيه ولو لم يكن إلا أنه يتخلق بأخلاق الله وبسنة رسول الله ﷺ وأن يكون متوكلا ومعتمدا على الله عز وجل وأن يكون محبا لغيره يعني باذلا في تقريب القلوب إلى نفسه إلى غير ذلك من فوائد الكرم العظيمة وأن يكون بعيدا عن الشح وعن البخل لما يغلظ من ضيق الصدر وضعف التوكل، وضعف اليقين وزيادة الجبن والخوف والهلع على المال الذي إنما خلقه الله عز وجل لاستمتاع الإنسان، المال الذي خلقه الله عز وجل لاستمتاع الإنسان لم يخلق الله عز وجل لأن يتعلا الإنسان أن يكون بخيلا به ممسكا له مانعا له بل إنه يوم القيامة سيطوق ما بخل به كما أخبر الله عز وجل، *سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ*. يقول أنا مالك أنا كنزك أي الذي كنت تبخل به.
فنسأل الله عز وجل أن يغنينا من فضله، وأن يرزقنا الأخلاق الحميدة، وكما قال النبي ﷺ: *«اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ اَلْأَخْلَاقِ، وَالْأَهْوَاءِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَدْوَاءِ» *.
ونقول أيضا: اللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
والحمد لله رب العالمين.