فوائد رمضانية لعام 1441 هـ
️للشيخ أبي محمد عبد الحميد الحجوري الزُّعكري حفظه الله.
فتح الخلاق ببيان جمل من محاسن ومساوئ الأخلاق.
♻️ الفائدة 9_*الصمت والكلام*
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فنحن في اليوم ١١ / من رمضان / لعام ١٤٤١.
نتكلم عن أمرين مهمين؛ ألا وهما: الصمت والكلام.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: *«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» *. دل الحديث على أن الإنسان ينبغي أن يسخر لسانه بالكلام الممدوح، الكلام المقرب إلى الله عز وجل، إلى الذكر والدعاء وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصيحة، وغير ذلك مما أباحه الله عز وجل.
*«أَوْ لِيَصْمُتْ» *، فإن الصمت سبب للسلامة من معرة اللسان، إذ أن الله عز وجل يقول: *﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) ﴾*. أمر بملازمة القول السديد، الموافق للقرآن والسنة، ولهذا قال بعضهم:
*إذا لم تجد قولا سديدا تقوله**بصمتك عن غير السداد سداد*
والمرئ بأصغريه قلبه ولسانه، فبصلاح القلب صلاح الظاهر والباطن، وبصلاح اللسان استقامة الحال والمئال، وكم من إنسان رفعه الله الدرجات العلى بكلامه، وكم من إنسان كان في الدركات السفلى بسبب كلامه، عن بِلال بنِ الحارثِ المُزنيِّ أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قالَ: *«إنَّ الرَّجُلَ ليَتَكَلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوانِ اللهِ تَعالى مَا كَانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بلَغَتْ يكْتُبُ الله لَهُ رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يلْقَاهُ، وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِنْ سَخَطِ الله مَا كَانَ يظُنُّ أنْ تَبْلُغَ يكْتُبُ اللَه لَهُ بهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يلْقَاهُ»* وفي بعضها: *«يهِوي بهَا في جَهَنَّم»* أبعد مما بين المشرق والمغرب. وفي قال العامة: “لسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته هانك”.
وفي الحديث *«ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ» * -أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ-*«إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ» * رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وكان ﷺ يكره: قيل وقال، لأنه كلام مبني على الحدث والظن، وكلام يتضمن الغيبة والنميمة والبهت، وقد وَسُئِلَ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ: *«الْفَمُ وَالْفَرْجُ» *. الفم بكلامه فيما لا يعنيه وبكلامه في الباطل، وبأكله للحرام، وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: *«اضْمَنُوا لِى سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ» * وذكر منها: *«اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ» *. فالتكن صادقا في قولك، ومسخرا بقولك في طاعة الله عز وجل، *﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦) ﴾*.
*والصمت أليق بالفتى* *من منطق في غير حينه*
فإذا لم يكن كلامك في ما يأدي إلى مرضاة الله فالصمت أليق، أما إذا كان الكلام حرام فالصمت واجب، ولا يترجح الكلام على الصمت إلا إذا كان في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والذكر والدعاء وغير ذلك مما يقرب من الله عز وجل، ويحبه الله عز وجل.
وأما إذا كان الكلام على غير ذلك فهو مسطر عليك ومقيد، كله مسطر عليك ومقيد لكن هذا ستحاسب عليه، وما قولك حين تسأل عن كل كلمة صدرت منك، *﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)﴾*. رقيب عن يمينه، وعتيد عن يساره، يرقبان جميع أعماله وأقواله.
نسأل الله السلامة والعافية
فعلى الإنسان أن يراقب الله عز وجل في كلامه وصمته، كما أنك تتعبد لله عز وجل بالصلاة والصيام والقيام والحج وغير ذلك من الفضائل والأركان كذلك تعبد لله عز وجل بكلامك وصمتك. ومن قلَّ كلامه قل خطأه ومن كثر كلامه كثر خطأه. نعم يا عباد الله، والنبي ﷺ كان أحسن الناس في هذا الباب، إذا تكلم تكلم ثلاثا أي بالخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم. وكان بعيدا عن فضول الكلام، كما أنه كان بعيدا عن فضول الشراب والطعام، وإنما كان ملازما لأحسن الأحوال والأقوال، فلنتأسى به، ولنقتدي به، لعل الله عز وجل أن يكرمنا أن نحشر في زمرته، وأن نكون على طريقته.
وقد كثر الكلام في هذه الأيام وقلَّ الصمت إلا من رحم الله، لاسيما مع وجود وسائل التواصل، فكل يتكلم لكن قلَّ من يتكلم بالحق وينصر الحق ويدعوا إلى الحق، فلا تتكلم ولا تنشر إلا ما ترجوا خيره، وإلا فالصمت زين، وكما قال المتقدم إذا كان الكلام بالفضة فالسكوت من ذهب.
إذا كان الكلام من فضة وله شأن وقيمة، فالسكوت أغلى منه وهو الذهب. وقيل لي لقمان الحكيم: اذبح شاة وأتيني بأحسن ما فيها، فآته بالقلب واللسان ثم قال له: اذبح شاة وأتني بأسوئ ما فيها فأتاه بالقلب واللسان فعجب منه وقال له طلبت منك أن تذبح شاة وتأتي بأحسن ما فيها فأتيت بالقلب واللسان وسألتك أن تأتي بأسوئ ما فيها فأتيت بالقلب واللسان قال: إنما الإنسان بقلبه ولسانه صلاحه وفساده. وكم من إنسان يكون صامتا ويجله من يراه فإذا ما تكلم عرف نقصه. ويذكرون أن بعضهم جاء إلى أبي حنيفة وكان ذا هيئة حسنة، هيئة العلماء والفقهاء فتهيبه أبو حنيفة فلما كان في المجلس تحدث أبو حنيفة عن مسألة غروب الشمس والإفطار إذا غربت، فقال ذلك الرجل: وإن لم تغرب؛ فقال قولته المشهورة آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه. يعني كان صامتا فتُهيب منه فلما تكلم عرف ضعف عقله، وضعف حاله. نعم فشأن اللسان عظيم، ربما ترفع لك به الدرجات، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسولَ اللهِ ﷺ، فَقالوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالدَّرَجَاتِ العُلَى، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، فَقالَ: *«وَما ذَاكَ؟» * قالوا: يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقالَ رَسولَ اللهِ ﷺ: *«أَفلا أُعَلِّمُكُمْ شيئًا تُدْرِكُونَ به مَن سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ به مَن بَعْدَكُمْ؟ وَلَا يَكونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنكُم إلَّا مَن صَنَعَ مِثْلَ ما صَنَعْتُمْ قالوا: بَلَى، يا رَسولُ اللهِ قالَ: تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً» *.
بالكلام استطاع الإنسان أن يرفع إلى درجات الكرام، وأن يكون مع الصفرة البررة فاستغل لسانك وكلامك في نصرة دين الله، وفي ما كان في هذا الشأن ولا نحرم عليك الكلام المباح مع زوجك ومع ولدك ومع صاحبك، لكن المراد الكلام الذي لا يأتي بخير الكلام الذي يكون مبني على الغيبة والنميمة والبهت والكذب، الكلام الذي يبنى على التدخل فيما لا يعني، الكلام الذي لا يقرب من الله عز وجل، وربما باعد منه، وهكذا الصمت أحكامه وأحكام الكلام فلا يليق بك أن تصمت على الباطل، إلا إذا عجزت عن ذلك، وإلا *«مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»*. فلسان شأنه عظيم، اللسان قال كلمت حق عند ملك جائر، تستطيع أن تتصدق به صدقات الكثيرة، *«وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» * اللسان تستطيع أن تدل الناس به على الخير وتهدي به إلى طريق الخير، عَن أبي هريرة أنَّ رَسُول الله ﷺ قَالَ: *«مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا» *. رواهُ مسلمٌ.
اللسان ترفع به حوائجك إلى الله، *﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠) ﴾*. اللسان تدافع به عن دين الله، عن أنس بن مالك، أنَّ النَّبيَّ ﷺ قالَ: *«جاهِدوا المشرِكينَ بأموالِكُم وأنفسِكُم وألسنتِكُم» *. فأمر عظيم أمر الكلام والصمت لكن من الذي يستطيع أن يأدب هذه النفس وأن يكون معنا على الوجه الذي شرع الله والذي بينه رسول الله ﷺ، وقد قيل:
*احفظ لسانك أيها الإنسان**لا يلدغنك إنه ثعبان*
*كم في المقابر من قتيل لسانه**صار مقتولا بسبب لسانه*
فالله الله في حفظ هذه الجارحة واستغلال نعمة الكلام فيما يقرب إلى ملك العلام وإلا فإن الصمت من أعظم ما يسلم منه الإنسان ويكفينا قول النبي ﷺ: *«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» * أي على الشر فذلك أروح لنفسه تأليف بحاله وأطمن لنفسه إلى غير ذلك من الفضائل والخصال.
الحمد لله رب العالمين.