الفائدة السادسة والعشرون من كتابي المقالات المفيدة في التوحيد والفقه والأخلاق والعقيدة:
كل شيء لم يكتب له البقاء، إذا اكتمل بدأ في النقصان
الحمدُ لله، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ:
* في اليوم الرابع عشر من رمضان، لعام تسعة وثلاثين وأربعمائه وألف.
أقول: من المعلوم أن الشيء إذا اكتمل بدأ في النقصان، إلا ما خلقه الله تعالى للبقاء، وهي المنظومة في قول بعضهم:
ثمانية حُكْمُ البقاء يعُمُّها
من الخلق والباقون في حيِّز العدمْ
هي العرش والكرسي نار وجنة
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ:﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف:15].
* فالإنسان إذا اكتمل أشدَّه بدأ في النقصان، وهكذا القمر إذا صار بدرًا بدأ في النقصان.
فيا أيها الناس علينا أن نشمِّرَ فيما بقي، وأن نستغفر ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتجاوز عنا فيما مضى، ونسأله عَزَّ وَجَلّ أن يوفقنا فيما يأتي، والأعمال بالخواتيم، فشهر رمضان شهر مبارك من أوله إلى آخره على ما تقدم مرارًا: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ».
إلا أن أوآخره أفضل من أوائله، كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ» وَكَانَ سَقْفُ المَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَةٌ، فَأُمْطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ.
وكان النبي ﷺ يجتهد في العشر الآواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، مع أنه كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره؛ لكن «كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»، أخرجاه.
فالأيام تذهب، والليالي تذهب، وبقي القليل، فـ«يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ»، «وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ».
والناس في آخر المواسم كلٌ حريص على شراء سلعته، أو بيع سلعته، فنحن في آخر الموسم، فلنكن أحرص من أهل الدنيا على دنياهم، ولنشمر.
انظروا دخل رمضان قبل ليال ما كنا نتوقع أن يسير بهذه الخُطا المتتالية، المتسارعة، تَهيَّبنَا حره، وتَهيَّبنَا ما فيه من النصب، وإذا فيه الراحة، والطمأنينة، والسكينة، وكسر الله عَزَّ وَجَلّ ما توقع الناس من الحر، وصرف الله عَزَّ وَجَلّ الضر الذي حصل لغيرنا، فهذا من دواع أن نقول: اللهم لك الحمد والشكر.
وأن نشكر الله عَزَّ وَجَلّ بالقول، واللسان والفعل، فإن النبي ﷺ كان يقيم الليل حتى تتفطر قدماه، فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا؟ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا».
والنفوس تضعف، ففي أول الشهر ترى إقبالًا من الكبار، والصغار، ومن الرجال، والنساء على الطاعة، وبالاستمرار في الشهر ترى فتورًا، وتاونيًا، وكسلًا، وهذا ملحوظ عند الكثير إلا من جاهد نفسه.
فينبغي لنا أن نجاهد أنفسنا فيما بقي من هذه الليالي المباركة؛ لعل الله عَزَّ وَجَلّ أن يرزقنا الخير إذا أصلحنا النيات، وعالجنا الطويات، وتابعنا محمد ﷺ فيما كان يفعل ويذر.
والنفس كما تقدم تثقل عليها العبادة، لكن إذا عودتها الطاعة تعودت، النفس كالبعير إذا سايسه صاحبه سار به، وإذا لم يسايسه شرد به، فهكذا النفس إذا سايستها على الطاعة وتتعاون معها في سوقها إلى طاعة الله بالاستعانة به، والرجاء، والتوكل، وبالترغيب، والترهيب، وصلت إلى المطلوب.
وإذا تركتها تشرد شردت، وذهبت إلى حيث ألقت رحلها أمُّ قَعْشَمِ، ربما بعد ذلك لا تستطيع أن تماسكها.
والإنسان الذي ما يستقيم في هذه الأيام متى عساه يستقيم؟! صعب، إذا كان البدن هذه الأيام مؤهل للطاعة، والإنسان يشرد، متى يستقيم؟!
هذه الأيام البِطنة غير موجودة، والبِطنة تذهب الفطنة، وهذه الأيام الشياطين، والمردة مصفدة، وهذه الأيام باب الشهوات مغلق أو موصد، أبواب النار مقفلة، وأبواب الجنة مفتوحه، فإذا لم يُؤهَل الشخص للخير مع وجود هذا المؤهلات متى يتأهل؟! .
متى يصل إلى المطلوب؟!.
فالله الله باغتنام ما بقي فالعمر يفنى والليالي تطوى، ولا يدري أحدنا بما يختم له، والأعمال بالخواتيم.
* * * * *
تطبيق المقالات المفيدة في التوحيد والفقة والأخلاق والعقيدة للشيخ أبي محمد عبدالحميد الحجوري الزعكري
https://play.google.com/store/apps/details?id=com.Alfaiz.Almgalat_Almufedh_Alzoukry