الفائدة الرابعة والأربعون من كتابي المقالات المفيدة في التوحيد والفقه والأخلاق والعقيدة:
ليلة القدر، ليلة مباركة
الحمدُ لله، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ:
يقول الله عَزَّ وَجَلّ:﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الدخان:6].
والليلة المباركة في قول جماهير العلماء، هي ليلة القدر، التي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ عنها:﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْر﴾ [القدر:1-5].
فهي ليلة مباركة كثيرة الخير، ولهذا عظَّم الله عَزَّ وَجَلّ شأنها في كتابه، وعظَّمَهَا رسوله ﷺ، بقوله: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
يا له من فضلٍ عظيمٍ، ومنةٍ واسعةٍ، وخيرٍ عميمٍ من ربناسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الغني الكريم؛ حيث يتفضل على عباده بمغفرة ذنوبهم، وستر عيوبهم، والتجاوز عن سيئاتهم، وزلاتهم، وفي ليلة واحدة يكرمهم بهذا الكرم العميم، والخير الواسع العظيم.
ولو قُدِّر أنه قامها مع الإمام بأقل قراءة في تمام، لكان ممن يرجى له هذا الفضل، لحديث «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ».
«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، قيامه لها إيمانًا بالله، وإيمانًا بفضلها، واحتسابًا للأجر الذي وعده الله عَزَّ وَجَلّ عليها.
* وسميت ليلة القدر؛ لعلو قدرها، وشرفها، فهي صاحبة قدر عظيم، حيث توازي ثلاث وثمانين سنة، وفيها بركات عظيمة.
* وسميت ليلة القدر أيضـًا؛ لأن مقادير العباد تصرف من اللوح المحفوظ إلى صحف الملائكة في تلك الليلة وقد روي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : رب ميت يمشي على الأرض.
فهذه الليلة سماها الله مباركة، ومن بركتها أن الله عَزَّ وَجَلّ يضاعف الأجر فيها للعامل، ويجزيه على ذلك المثوبة العظيمة، ومن بركتها أنها تتنزل فيها الملائكة، ولكثرة تنزل الملائكة في تلك الليلة تصبح الشمس بيضاء نقيه لا شعاع لها؛ لكثرة نزول وعروج الملائكة، والروح فيها أيضـًا ممن يتنزل جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ، وهذا من عطف الخاص على العام؛ لبيان فضله، ومنزلته، وشرفه.
وهذه الليلة يقع فيها تعاقب نزول الملائكة، والملائكة يتعاقبون على مجالس الذكر، وعلى أماكن تلاوة القرآن، وعلى أماكن الصلاة، وغير ذلك من الطاعات مما هو معلوم بأدلته.
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً، فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ، حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلّ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الْأَرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا، أَيْ رَبِّ قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ».
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا طَلَبَ».
ففي تلك الليلة يقع نزول عظيم للملائكة يسمعون الآيات، والدعاء، ويحضرون الجماعات، وتتحصل البركات، فلا ينبغي لمسلم أن يحرم نفسه من خير هذه الليلة.
* ومن وفق لها فعليه أن يكثر من الدعاء، وعليه بالصلاة، وقراءة القرآن، ولا يكون قيامها بالاحتفالات، كما هو الصنيع في بعض بلاد المسلمين، حيث يجتمع الرؤساء، والقضاة، ومن إليهم، ويتبادلون الكلمات، والتهاني، فهذا ليس من إحياء ليلة القدر، وإنما أحياها النبي ﷺ بالقيام والذكر والدعاء.
وينبغي لنا أن نحرص على الصلاة، ولا أقل من أن نصلي ما قُدِرَ في تلك الليلة من الخير.
ولينزجر أصحاب المعاصي، وليتركوا ما هم عليه من مشاهدة التلافز، والدشوش، وسماع الموسيقى، والأغاني، وليقبلوا على كلام الله، وكلام رسوله ﷺ، وليحضروا مجالس الذكر، والدعاء، والخير، لعل الله عَزَّ وَجَلّ أن يكرمهم بستر عيوبهم، وتكفير ذنوبهم، وصلاح أحوالهم.
ولنكثر من الدعاء لأنفسنا، ولأبنائنا، وبناتنا، وزوجاتنا، ولآبائنا، وأجدادنا، بل ولجميع المسلمين، فإنه لا غنى لنا عن الله عَزَّ وَجَلّ، نسأله الصلاح، والرزق، ونسأله العون، ونسأله الثبات على دين الإسلام حتى نلقاه.
ونسأل الله عَزَّ وَجَلّ أن يعاملنا بكرمه لا بما نحن عليه، أمَّا لو عاملنا بما نحن عليه، فنحن قوم على خطرٍ عظيمٍ، نسأل الله السلامة، عندنا قصور في العبادة، وتفريط، وغشيان للذنب، وتهاون بالأمر، وارتكاب للنهي، ولا تخلوا قلوبنا إلا من رحم الله من حسد، وغل، وحقد، ولا تتوقف ألسنتنا إلا من رحم الله عن غيبة، ونميمة، وكذب، وبهت.
فالواقع أن المسلمين حالهم مزري، لكن نسأل الله أن يتفضل عليهم بمغفرة الذنوب، وستر العيوب، وصلاح الأحوال، وحسن المآل فهو سبحانه أهل لذلك كله.
والحمد لله رب العالمين.
* * * * *
تطبيق المقالات المفيدة في التوحيد والفقة والأخلاق والعقيدة للشيخ أبي محمد عبدالحميد الحجوري الزعكري
https://play.google.com/store/apps/details?id=com.Alfaiz.Almgalat_Almufedh_Alzoukry